الجمعة، 3 مايو 2013

من أسرار القرآن. " ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد".

undefined
د. زغـلول النجـار

هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر الخمس الأول من سورة "سبأ" ، وهي سورة مكية، وآياتها أربع وخمسون (54) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قوم سبأ، وهم قبيلة من العرب سكنت بلاد اليمن، وسميت باسم جدهم (سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان)، ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
هذا، وقد سبق لنا استعراض سورة "سبأ" ، وما جاء فيها من ركائز العقيدة، والإشارات الكونية، ونركز هنا علي ومضات الاعجاز التاريخي، والعلمي، والتربوي في ذكر نبي الله داود عليه السلام ـ في هذه الآية الكريمة، وفي غيرها من آيات القرآن المجيد.
من أوجه الإعجاز في الآية الكريمة
في الأثر أن داود ـ عليه السلام ـ عاش في أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد وتولي الملك ـ علي جزء من أرض فلسطين ـ في حدود سنة( 1012) ق.م، وتوفي في حدود سنة (933) ق.م، وذكر القرآن الكريم له، وقد أنزل هذا الكتاب المجيد بعد وفاة داود ـ عليه السلام ـ بأكثر من (1500 ) سنة يعتبر من المعجزات التاريخية في كتاب الله، خاصة، وأن كتب الأولين التي أشارت إلي هذا العبد الصالح لم تعتبره نبيا، ولم تذكر من الوقائع التي أوردها القرآن الكريم عنه شيئا، وأثارت حوله ما شوه صورته تشويها شديدا، وهو الذي امتدحه القرآن الكريم في العديد من آياته، وامتدحه ـ المصطفي صلي الله عليه وسلم ـ بقوله الشريف:أفضل الصيام صيام داود، كان يصوما يوما ويفطر يوما، وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا، وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شيء، وكان يشفي بصوته المهموم والمحموم".
جاء ذكر داود ـ علي السلام ـ في القرآن الكريم ست عشر ( 16 ) مرة علي النحو التالي:
1ـ منها ما وصف المعركة التي انتصر فيها داود علي جالوت.
"ألم تر إلي الملإ من بني إسرائيل من بعد موسي إذا قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين* وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا اني يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك مه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملك من يشاء والله واسع عليهم، وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسي وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين* فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطمعه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزوه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللهوالله مع الصابرين، ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين، فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء"
[البقرة:246-252].
3ـ ومنها ما يؤكد أن داود ـ عليه السلام ـ كان نبيا رسولا، آتاه الله ـ تعالي ـ كتابا اسمه (الزبور)
" إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلي نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسي وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود "زبور" (النساء: 163)
" وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين علي بعض وآتينا داوود زبور"
( الإسراء 55).
3 ـ ومنها ما جاء عن داودـ عليه السلام ـ أنه لعن الذين كفروا من بني إسرائيل:
" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داوود وعيسي ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون" (المائدة 87-97) .
4 ــ ومنها ما يؤكد أن داود كان من ذرية نوح:
" وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم علي قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم* ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسي وهارون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيي وعيسي وإلياس كل من الصالحين، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا علي العالمين"
(الأنعام 78 ـ 79)
5 ـ ومنها ما تحدث عن واقعة تحكيم بين رجلين من قومه قضي فيها داود برأيه، ثم استأذنه ابنه سليمان في قضاء آخر فأيده أبوه علي قضائيه ووصفه بالحكمة:
"وداود وسلميان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمنها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين"
(الأنبياء 78 ـ 79)
6ـ ومنها ما يشهد بأن الجبال والطير كانت تسبح مع تسبيح داودـ عليه السلام ـ وأن الله ـ تعالي ـ قد آلان له الحديد وعلمه كما علم ابنه سليمان منطق الطير، وآتاهما من لدنه علما، كما علمه صناعة الدروع من رقائق حديدية متداخلة متعرجة لا تحد حركة الجسم وتحميه، وكان ذلك من أسباب انتصاراته العسكرية العديدة:
"ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا علي الكثير من عباده المؤمنين، وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إذن هذا لهو الفضل المبين"
(النمل 15ـ 16)
"ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال أوبي معه واطير وآلنا له الحديد " أن أعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير"
(سبأ 10 ـ 11).
"اصبر علي ما يقوولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب* إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة كل له أواب "وشددنا ملكة وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب"
(ص 17 ـ 20 ).
7ـ ومنها ما يروي أن الله ـ تعالي ـ علم داودـ عليه السلام ـ ألا يصدر حكما إلا بعد الاستماع إلي الطرفين المتخاصمين وذلك في واقعة ابتلاء تربوية يرويها القرآن الكريم علي النحو التالي:
" وهل آتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب* إذ دخلوا علي داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغي بعضنا علي بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدانا إلي سواء الصراط* إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولم نعجة ولي واحدة فقال أكفلينها وعزني في الخطاب، قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم علي بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربة وخر راكعا وآناب، فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفي وحسن مآب، يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوي فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب"
(ص 21 ـ 26 ).
وكل واحدة من هذه الوقائع السبع هي معجزة تاريخية في ذاتها، ومعجزة تربوية وعلمية في آن واحد، وذلك للأسباب التالية:
أولا: إن معظم هذه الوقائع لم تذكرها كتب الأولين.
ثانيا: إن في كل واقعة من هذه الوقائع عدد من الدروس والعبر المستفادة التي لها دورها التربوي الواضح في سلوك كل من يقرؤها أو يستمع إليها.
ثالثا: إن العلم التجريبي يثبت أخيرا أن كل شيء في الوجود ( من الخلق غير الملكف، مثل: الجمادات، والنباتات والحيوانات) له قدر من الذاكرة، والوعي، والإدراك والشعور والانفعال والتعبير، وإشارة القرآن الكريم إلي أن كلا من الجبال والطير كان يسبح مع تسبيح داودـ عليه السلام ـ يسجل سبقا واضحا لجميع المعارف المكتسبة بأكثر من ألف وأربعمائة سنة، كما يثبت معجزة علمية واضحة لا ينكرها إلا جاحد، خاصة أن داودـ عليه السلام ـ كان قد من الله ـ تعالي ـ عليه بصوت فائق العذوبة والجمال ويزيده جمالا مسحة من الوقار والجلال، فقد سمع رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ صوت أبي موسي الأشعري ـ رضي الله عنه ـ وهو يقرأ من القرآن الكريم بالليل، فقال صلي الله عليه وسلم لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود واسماعيل الخلق غير الملكف هو درجة من درجات الصفاء الروحي، والإشراق القلبي، والسمو العقلي لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله ـ سبحانه وتعالي ـ وفي هذا السياق تأتي "الإنة الحديد" لنبي الله داود عليه السلام ـ خارقة من تلك الخواقر التي وهبها الله ـ تعالي ـ لهذا العبد الصالح والرسول الصادق، كذلك كان من نعم الله ـ تعالي ـ علي عبده داودـ عليه السلام ـ إلهامه بصناعة الدروع من رقائق وحلقات متداخلة من الحديد لا تثقل الجسم ولا تحول دون حرية حركته، وفي نفس الوقت تحميه من سهام الأعداء وهو ما وصفه القرآن الكريم بتعبير (التقدير في السرد).
ولم يرد في كتب الأولين شيء عن أغلب الوقائع التي أوردها القران الكريم عن عبدالله ورسوله داود ـ عليه السلام، والفارق بين كلام الله وكلام البشر أوضح من الشمس في رابعة النهار، فالحمد لله علي نعمة القرآن، والحمد لله علي نعمة الإسلام، والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آلة وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته علي يوم الدين ـ وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق